كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يَظُنُّ مَنْ نُشِّئَ عَلَى التَّقْلِيدِ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ أَنَّ مَا قَالَهُ هَذَا الْحَكِيمُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاهِيرُ مِنْ أُمَمِ الْعِلْمِ وَالْمَدَنِيَّةِ ذَاتِ الْبَأْسِ وَالْقُوَّةِ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى تَأْدِيبِ الْمَدَارِسِ، وَسَيْطَرَتِهَا فِي تَكْوِينِ نَابِتَةِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ تَعْتَزُّ بِهِمْ وَيَعْلُو شَأْنُهَا.
مَهْلًا أَيُّهَا الْمُقَلِّدُ الْغِرُّ، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاظِرِينَ تُصَوِّرُ لَهُمْ أَذْهَانُهُمْ بِدَلَائِلِهَا النَّظَرِيَّةِ أَمْرًا ثُمَّ لَا يَظْهَرُ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ التَّجَارِبِ الطَّوِيلَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْوَاءُ الرُّؤَسَاءِ مَا لَا يَظْهَرُ الصَّوَابُ فِيهِ بَعْدَ التَّجَارِبِ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَمِنْهُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَبْحَثُ فِيهَا.
وَضَعَ رُؤَسَاءُ النَّصْرَانِيَّةُ قَوَانِينَ لِتَرْبِيَةِ الْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ تَرْبِيَةً شَدِيدَةً، يُؤْخَذُونَ فِيهَا بِالنِّظَامِ وَالطَّاعَةِ الْعَمْيَاءِ لِيَكُونُوا جُنْدًا رُوحِيًّا لِرُؤَسَائِهِمْ، يَتَحَرَّكُونَ بِإِرَادَتِهِمْ لَا بِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمْ وَيَتَوَجَّهُونَ حَيْثُمَا يُوَجِّهُونَهُمْ، وَيُنَفِّذُونَ كُلَّ مَا بِهِ يَأْمُرُونَهُمْ، فَاسْتَوْلَى أُولَئِكَ الرُّؤَسَاءُ بِهَذَا النِّظَامِ عَلَى أَبْنَاءِ دِينِهِمْ مِنَ الْمُلُوكِ إِلَى الصَّعَالِيكِ وَسَخَّرُوهُمْ لِإِرَادَتِهِمْ قُرُونًا كَثِيرَةً، وَفَعَلَ الْمُلُوكُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سُلْطَتِهِمُ الْجَسَدِيَّةِ فَاسْتَعْبَدُوا النَّاسَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَكَانُوا سَبَبَ ضَعْفِ أُمَمِهِمْ وَانْحِطَاطِهَا إِلَى أَنْ حَرَّرُوا أَنْفُسَهُمْ.
ثُمَّ زَلْزَلَتِ الِانْقِلَابَاتُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ السُّلْطَتَيْنِ وَأَضْعَفَتْهُمَا بِمَا اسْتَفَادَ الْأُورُبِّيُّونَ مِنَ الْعِلْمِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِحُرُوبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ، وَبِمَا بَثَّهُ فِيهِمْ تَلَامِيذُ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَضَعُفَتِ السُّلْطَتَانِ وَنَازَعَتْهُمَا قُوَّةُ الْعِلْمِ فَنَزَعَتْ مِنْهُمَا مَا نَزَعَتْ، فَلَمَّا رَأَى الْفَرِيقَانِ أَنَّهُ لَا قِبَلَ لَهُمَا بِالْعِلْمِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُمَا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِهِ، تَوَجَّهَتْ هِمَّتُهُمَا إِلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى تَقْرِيرِ سُلْطَانِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، فَكَانَتِ الْمَدَارِسُ عَوْنًا لِلْأَدْيَارِ وَلِلثُّكْنَاتِ فِي إِضْعَافِ إِرَادَةِ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ، وَإِفْسَادِ بَأْسِهِمْ وَالتَّصَرُّفِ فِي حُرِّيَّتِهِمْ، وَهَذَا كَانَ فِي بَعْضِ الشُّعُوبِ أَقْوَى مِنْهُ فِي بَعْضٍ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْحُكَمَاءُ الَّذِينَ فَطِنُوا لَهُ بَعْدُ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ قُوَّةُ الْمَدَنِيَّةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ الْحَاضِرَةِ بِالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ الشَّخْصِيِّ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِيهِ، وَيَنْشُدُونَ مَرْتَبَةَ الْكَمَالِ مِنْهُ، وَضَعُفْنَا بِفَقْدِ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَحْنُ السَّابِقِينَ إِلَيْهِ.
الْإِنْكِلِيزُ أَعْرَقُ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ فِي الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ الْإِرَادَةِ، عَلَى تَثَبُّتِهِمْ فِي تَقَالِيدِهِمْ وَبُطْئِهِمْ فِي التَّحَوُّلِ عَنِ الْأَمْرِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ، وَلِحُرِّيَّتِهِمْ وَاسْتِقْلَالِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ اسْتِفَادَةً مِنَ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي زَلْزَلَ سُلْطَةَ الْبَابَوِيَّةِ مِنْ بَعْضِ الْبِلَادِ وَثَلَّ عَرْشَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَحُكُومَةُ هَذَا الشَّعْبِ هِيَ الْحُكُومَةُ الْفَذَّةُ الَّتِي جَعَلَتْ خِدْمَةَ الْجُنْدِيَّةِ اخْتِيَارِيَّةً، وَأَقَامَتِ التَّرْبِيَةَ فِي الْمَدَارِسِ عَلَى قَوَاعِدَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالِاسْتِقْلَالِ، وَكَرَامَةِ النَّفْسِ، لَمْ يُقِمْهَا أَحَدٌ مِثْلَهَا، وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَتْ عَلَى زُهَاءِ خُمْسِ الْبَشَرِ الْأَذِلَّاءِ بِضَعْفِ الِاسْتِقْلَالِ وَفَقْدِ الْحُرِّيَّةِ، عَلَى كَوْنِ جُنْدِهَا أَقَلَّ مِنْ جُنْدِ غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ الْكُبْرَى، وَقَدْ فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ جِيرَانِهَا الْفِرِنْسِيسِ وَأَهَابُوا بِقَوْمِهِمْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِهَا فِيهِ، وَكَتَبُوا فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً تُرْجِمَ بَعْضُهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَاشْتُهِرَ كَكِتَابِ «سِرِّ تَقَدُّمِ الْإِنْكِلِيزِ السَّكْسُونِيِّينَ» وَكِتَابِ «التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ» الْمُسَمَّى فِي الْأَصْلِ «إِمِيلِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ».
بَيَّنَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّعْلِيمَ فِي الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ لَا يُرَبِّي رِجَالًا، وَإِنَّمَا يَصْنَعُ آلَاتٍ تَسْتَعْمِلُهَا الْحُكُومَةُ فِي تَنْفِيذِ سِيَاسَتِهَا كَمَا تَشَاءُ قَالَ فِي نِظَامِ مَدَارِسِهِمْ:
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ مُلَائِمٌ لِذَلِكَ الْغَرَضِ كَمَا يَنْبَغِي، أَيْ أَنَّهُ يُهَيِّئُ الطَّلَبَةَ إِلَى الْوَظَائِفِ الْمَلَكِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُوَظَّفَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَازَلَ عَنْ إِرَادَتِهِ؛ وَلِهَذَا وَجَبَ أَنْ يَتَرَبَّى عَلَى الطَّاعَةِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ أَمْرِ رُؤَسَائِهِ مِنْ غَيْرِ مُنَاقَشَةٍ وَلَا نَظَرٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَالْمَدَارِسُ الدَّاخِلِيَّةُ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَاعِثِ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَدْرَسَةَ نُظِّمَتْ عَلَى نَسَقِ ثُكْنَةٍ عَسْكَرِيَّةٍ يَقُومُ الطَّلَبَةُ فِيهَا مَنْ نَوْمِهِمْ عَلَى صَوْتِ الْبُوقِ أَوْ رَنَّةِ الْجَرَسِ، وَيَنْتَقِلُونَ مُصْطَفِّينَ بِالنِّظَامِ مِنْ عَمَلٍ إِلَى آخَرَ، وَرِيَاضَتُهُمْ تُشْبِهُ الِاسْتِعْرَاضَ الْعَسْكَرِيَّ، فَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنَ الدَّرْسِ إِلَّا فِي رَحَبَاتٍ دَاخِلَ الْبِنَاءِ عَالِيَةِ الْأَسْوَارِ وَيَتَمَشُّونَ فِيهَا جَمَاعَاتٍ جَمَاعَاتٍ كَأَنَّهُمْ لَا يَلْعَبُونَ إِلَى أَنْ قَالَ:
وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هَذَا النِّظَامَ يُضْعِفُ فِي الشَّبَابِ قُوَّةَ الْعَمَلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَيُوهِنُ الْهِمَّةَ وَالْإِقْدَامَ، كَمَا أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَيْضًا إِزَالَةُ مَا قَدْ يُوجَدُ بَيْنَ الطَّلَبَةِ مِنْ تَفَاوُتِ الْأَنْسَابِ؛ لِأَنَّ الدَّائِرَةَ الَّتِي تَدُورُ عَلَى الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ فَتَجْعَلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ آلَاتٍ مُعَدَّةً لِلْعَمَلِ الَّذِي يُقْصَدُ مِنْهَا، وَمِمَّا يَزِيدُ فِي سُهُولَةِ انْقِيَادِهِمْ وَحُسْنِ طَاعَتِهِمْ كَوْنُ النِّظَامِ الَّذِي تَرَبُّوا عَلَيْهِ لَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْبِيَةِ الْفِكْرِ وَالتَّعَقُّلِ، بَلِ الطَّالِبُ يَتَنَاوَلُ- مُسْرِعًا- كَثِيرًا مِنَ الْمَوَادِّ سَوَاءٌ أَحْكَمَ تَعَلُّمَهَا أَمْ لَا، وَلَا تَشْغَلُ مِنْ مَلَكَاتِهِ إِلَّا الذَّاكِرَةِ، فَكَمَا أَنَّهُ يَتَلَقَّى التَّعْلِيمَ مِنْ دُونِ نَظَرٍ فِيهِ تَرَاهُ يَنْحَنِي مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ أَمَامَ الْأَوَامِرِ الَّتِي تَصْدُرُ لَهُ مِنْ رُؤَسَائِهِ فِي الْمَصَالِحِ الَّتِي يُوَظَّفُ فِيهَا.
وَذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ مَنِ الْتَفَتَ إِلَى جَعْلِ الْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ هَكَذَا هُوَ نَابِلْيُونُ الْأَوَّلُ، لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ جَعْلِ السُّلْطَةِ كُلِّهَا بِيَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَمَا يَشَاءُ، وَنَاهِيكُمْ بِوُلُوعِ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِالِانْفِرَادِ بِالسُّلْطَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَدَارِسَ الْأَلْمَانِيَّةَ لَا تُرَبِّي رِجَالًا لِأَنَّهَا كَالْمَدَارِسِ الْفَرَنْسِيَّةِ، بَلْ هُمْ قَلَّدُوا أَلْمَانْيَا فِي نِظَامِ مَدَارِسِهَا كَمَا قَلَّدُوهَا فِي النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ، وَذَكَرَ شَكْوَى عَاهِلِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَدَارِسِ وَتَصْرِيحِهِ فِي خِطَابٍ لَهُ بِأَنَّهَا لَمْ تُؤَدِّ إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهَا، وَأَطَالَ فِي انْتِقَادِ نِظَامِ هَذِهِ الْمَدَارِسِ.
ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَنَّ الْإِنْكِلِيزَ يُرَبُّونَ أَوْلَادَهُمْ تَرْبِيَةً اسْتِقْلَالِيَّةً، فَيَشُبُّ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فِي أُمُورِ مَعِيشَتِهِ وَعَامَّةِ أُمُورِهِ، لَا مُتَّكِلًا عَلَى عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ وَلَا عَلَى حُكُومَتِهِ، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ وَأَطَالَ فِي وَصْفِهَا.
وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ «التَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ»: «قَهْرُ الطِّفْلِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَإِلْزَامِهِ إِطَاعَةَ الْأَوَامِرِ يَسْتَلْزِمُ حَتْمًا إِخْمَادَ وِجْدَانِ التَّكْلِيفِ فِي نَفْسِهِ، خُصُوصًا إِذَا طَالَ أَمَدُ ذَلِكَ الْقَهْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ غَيْرُهُ يَتَكَلَّفُ الْحُلُولَ مَحَلَّهُ فِي الْإِرَادَةِ وَالْحُكْمِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْإِنْصَافِ وَالْجَوْرِ، لَمْ تَبْقِ لَهُ حَاجَةٌ فِي الرُّجُوعِ إِلَى وِجْدَانِهِ وَاسْتِفْتَاءِ قَلْبِهِ»، ثُمَّ قَالَ: الطَّاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ حُرِّيَّةٍ وَاخْتِيَارٍ تَرْفَعُ طَبْعَ الطِّفْلِ، وَالْإِذْعَانُ النَّاشِئُ عَنِ الْقَهْرِ يَحُطُّهُ، فَلِلْأُمِّ وَمُعَلِّمِ الْمَدْرَسَةِ كَلِمَةٌ يَقُولَانِهَا عَنِ الطِّفْلِ الْعَنِيدِ الْقَاسِي وَهِيَ قَوْلُهُمَا: «سَأُذَلِّلُهُ» وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ النَّاشِئِينَ عَلَى طَرِيقَتِنَا الْفَرَنْسِيَّةِ فِي التَّرْبِيَةِ مُذَلَّلُونَ دَائِمًا، نَعَمْ قَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي اتِّبَاعِهَا مَصْلَحَةٌ لِلْأَحْدَاثِ وَلِلْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ وَلَكِنْ سَائِسُ الْخَيْلِ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ لِلْحِصَانِ الَّذِي يُرَوِّضُهُ: لَا تَجْزَعْ فَإِنِّي أَعْمَلُ هَذَا بِكَ لِمَصْلَحَتِكَ، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ التَّرْوِيضِ عَلَى الْحِصَانِ أَصَحُّ مِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَخْسَرُ بِتَرْوِيضِهِ بِاللِّجَامِ وَالْمِهْمَازِ إِلَّا حِدَّتَهُ الْوَحْشِيَّةَ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَإِنَّكَ إِذَا أَخَذْتَهُ بِالْقَهْرِ وَسُسْتَهُ بِالْإِرْغَامِ تَذْهَبُ بِحُبِّ الْكَرَامَةِ مِنْ نَفْسِهِ، وَتَبْخَسُ قِيمَتَهُ فِي نَظَرِهِ، وَلَهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي هَذَا انْتَقَدَ بِهِ التَّعْلِيمَ الدِّينِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوَالِبِ الَّتِي تُصُبُّ فِيهَا الْمَوَادُّ لِتُكَونَ آلَاتٍ بِشَكْلٍ مَخْصُوصٍ.
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّينَ إِلَى تَصْدِيقِ مَا قَالَهُ عَالَمُنَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ مِنْ بِضْعَةِ قُرُونٍ، نَعَمْ إِنَّ الضَّعْفَ الَّذِي كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ الْمُنْغَمِسَةَ فِي الْحَضَارَةِ قَدْ عَالَجَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ بِخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ كَالْبَارُودِ وَالدِّينَامِيتِ وَالْبُخَارِ وَالْكَهْرُبَاءِ، وَبِعَمَلِ الْآلَاتِ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي تَدُكُّ الْمَعَاقِلَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ وَتَقْتُلُ فِي الدَّقِيقَةِ الْوَاحِدَةِ أُلُوفًا مِنَ النَّاسِ، وَبِالنِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ الْجَدِيدِ، فَصَارَ الْغَلَبُ لِأُمَمِ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ عَلَى أَهْلِ الْبَدْوِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ وَلَا صِنَاعَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ طَفِقُوا يُعَالِجُونَ مَا تُحْدِثُهُ الْحَضَارَةُ مِنَ الضَّعْفِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْعَزَائِمِ بِالتَّرْبِيَةِ الِاسْتِقْلَالِيَّةِ وَالرِّيَاضَاتِ الْبَدَنِيَّةِ؛ وَلِذَلِكَ اسْتَوْلَوْا عَلَى مَنْ حُرِمُوا هَذِهِ الْمَزَايَا مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ، وَكَادُوا يُسَخِّرُونَ لِخِدْمَتِهِمْ سَائِرَ الْبَشَرِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِاسْتِقْلَالِ الْفِكْرِ وَالْإِرَادَةِ أَقْرَبَ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَبْعَدَ عَنِ الِاسْتِعْبَادِ لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَلِيَعْتَبِرْ بِذَلِكَ الَّذِينَ يَفْخَرُونَ بِالتَّوْحِيدِ، وَهُمْ يَسْتَغِيثُونَ أَهْلَ الْقُبُورِ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمْ وَجَلْبِ الْخَيْرِ لَهُمْ، وَيَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا، وَهُوَ لَمْ يَجْعَلِ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ حَفِيظًا عَلَيْهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا وَلَا وَكِيلًا وَلَا جَبَّارًا، وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُ مُعَلِّمًا هَادِيًا- كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا- بَلْ جَعَلَ الْوَازِعَ الدِّينِيَّ مِنَ النَّفْسِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، فَمَا أَرْقَى هَذَا الدِّينَ وَمَا أَسْمَى هَدْيَهُ، وَمَا أَضَلَّ مَنِ الْتَمَسَهُ مِنْ غَيْرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ-.
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} أَيْ: يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ كَافَّةً وَأُولَئِكَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَاتِ الْأَخِيرَةِ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ خَشُوا النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَرَهُمْ بِأَمْرٍ: أَمْرُكَ طَاعَةٌ، لَكَ مِنَّا طَاعَةٌ فِيمَا تَأْمُرُنَا بِهِ وَتَنْهَانَا عَنْهُ، انْتَهَى.
وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّقْدِيرُ «أَمْرُنَا طَاعَةٌ» أَيْ: شَأْنُنَا مَعَكَ الطَّاعَةُ لَكَ، وَالْأَقْرَبُ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمَعْنَى أَمْرُكَ طَاعَةٌ أَنَّهُ مُطَاعٌ، فَجَعَلَ الْمَصْدَرَ فِي مَكَانِ اسْمِ الْمَفْعُولِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ بِإِيجَازِهِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ يَدَّعُونَ كَمَالَ الطَّاعَةِ وَيُظْهِرُونَ مُنْتَهَى الِانْقِيَادِ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ، أَيْ: فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ، وَكَلِمَةُ بَرَزَ مِنْ مَادَّةِ الْبَرَازِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ- وَهُوَ الْفَضَاءُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: خَرَجُوا مِنَ الْمَكَانِ يَكُونُونَ مَعَكَ فِيهِ إِلَى الْبَرَازِ مُنْصَرِفِينَ إِلَى بُيُوتِهِمْ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ دَبَّرَتْ فِي أَنْفُسِهَا لَيْلًا غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ لَهَا وَتُظْهِرُ الطَّاعَةَ لَكَ فِيهِ نَهَارًا، أَوْ بَيَّتَتْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُهُ هِيَ لَكَ وَتُؤَكِّدُهُ مِنْ طَاعَتِكَ، وَالتَّبْيِيتُ مَا يُدَبَّرُ فِي اللَّيْلِ مِنْ رَأْيٍ وَنِيَّةٍ وَعَزْمٍ عَلَى عَمَلٍ، وَمِنْهُ قَصْدُ الْعَدُوِّ لَيْلًا لِلْإِيقَاعِ بِهِ، وَمِنْهُ تَبْيِيتُ نِيَّةِ الصِّيَامِ أَيِ الْقَصْدُ إِلَيْهِ لَيْلًا، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْبَيْتُوتَةِ، فَإِنَّ وَقْتَهَا هُوَ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْفِكْرُ وَيَصْفُو فِيهِ الذِّهْنُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ أَبْيَاتِ الشِّعْرِ، أَيْ: زَوَّرُوا وَرَتَّبُوا فِي سَرَائِرِهِمْ غَيْرَ مَا تَأْمُرُهُمْ بِهِ كَمَا يُزَوِّرُونَ الْأَبْيَاتَ مِنَ الشِّعْرِ، أَيْ: يَعْزِمُونَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مَعَ التَّفَكُّرِ فِي كَيْفِيَّتِهَا وَاتِّقَاءِ غَوَائِلِهَا كَمَا يُرَتِّبُونَ أَبْيَاتَ الشِّعْرِ وَيَزِنُونَهَا، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ خَاصًّا هَذَا بِالْمُنَافِقِينَ، بَلْ يَكُونُ مِنْ ضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ، وَهَذَا الرَّأْيُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَالَهُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ نَاسٌ يَقُولُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمَنَّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ لِيَأْمَنُوا عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَالَفُوا إِلَى غَيْرِ مَا قَالُوا عِنْدَهُ فَعَاتَبَهُمُ اللهُ.
{وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} أَيْ يُبَيِّنُهُ لَكَ فِي كِتَابِهِ وَيَفْضَحُهُمْ بِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَوْ يَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ وَلَا تُبَالِ بِمَا يُبَيِّتُونَ، وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا أَسَرُّوا وَلَمْ يُظْهِرُوا، أَوِ الْمُرَادُ: لَا تُقْبِلْ عَلَيْهِمْ بِالْبَشَاشَةِ كَمَا تُقْبِلُ عَلَى الصَّادِقِينَ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فِي شَأْنِهِمْ، أَيِ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا تَكِلْ إِلَيْهِ جَزَاءَهُمْ وَتُفَوِّضْ إِلَيْهِ أَمْرَهُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا، يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَبِمَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُونَ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا، وَيَقْدِرُ عَلَى إِيقَاعِ هَذَا الْجَزَاءِ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْهِ الْحِسَابُ وَالْجَزَاءُ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِنَا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ هُنَا مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} وَرَدَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَالُوا مِثْلَهُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُمْ لَا يَكَادُونَ يَتْرُكُونَ آيَةً مِنْ آيَاتِ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي مُعَامَلَةِ الْمُخَالِفِينَ إِلَّا وَيَزْعُمُونَ نَسْخَهُ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ غَيْرُ هَذَا وَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ قَوْلِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ خَاصَّةً.
قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ {بَيَّتَ طَائِفَةٌ} وَبِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي الطَّاءِ، وَهُمَا حَرْفَانِ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ يُدْغِمُ بَعْضُ الْعَرَبِ أَحَدَهُمَا فِي الْآخَرِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَالْبَاقُونَ بِغَيْرِ إِدْغَامٍ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ اتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى تَذْكِيرِ بَيَّتَ قَالُوا: لَمْ يَقُلْ «بَيَّتَتْ» بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ طَائِفَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَلِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْفَرِيقِ وَالْفَوْجِ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ كَافٍ فِي بَيَانِ الْجَوَازِ لَا فِي بَيَانِ الِاخْتِيَارِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يُؤَنَّثَ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ وَلَوْ كَانَ تَأْنِيثُهُ لَفْظِيًّا، وَوَجْهُ الِاخْتِيَارِ الَّذِي أَرَاهُ هُوَ أَنَّ تَكْرَارَ التَّاءِ قَبْلَ الطَّاءِ الْقَرِيبَةِ مِنْهَا فِي الْمَخْرَجِ لَا يَخْلُو مَنْ ثِقَلٍ عَلَى اللِّسَانِ، وَلِذَلِكَ تُحْذَفُ إِحْدَى التَّائَيْنِ مَنْ مِثْلِ تَتَصَدَّى وَتَتَكَلَّمُ فَيُقَالُ: تَصَدَّى وَتَكَلَّمُ.